بعد نحو ثلاثة أسابيع على الغزو البري الدموي الإسرائيلي لغزة، صوّر جندي إسرائيلي مقطع فيديو من داخل القطاع المدمّر والمحاصر وهو يهتف: «سنكمل المهمة التي كُلِّفنا بها. اغزُ واطرد واستقر. هل تسمع هذا يا بيبي؟».
ومؤخراً، كشفت شبكة «سي أن أن» الأميركية أن «خطة إسرائيل الأصلية» للحرب تهدف إلى «تسوية غزة بالأرض»، في حين اقترح الوزير الإسرائيلي رون ديرمر خطة «لتخفيف» عدد سكان القطاع بإجبارهم على الفرار إلى مصر عن طريق البر، أو بالقوارب إلى أفريقيا وأوروبا، لأن «البحر مفتوح لهم».
لكن جذور الغزو الإسرائيلي الحالي لغزة والتطهير العرقي لسكانها الفلسطينيين البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، تعود إلى ما قبل عقدين من الزمن، وقبل وقت طويل من السابع من تشرين الأول - أكتوبر. فمنذ أمر أرييل شارون، رئيس الوزراء آنذاك، بإخلاء وتفكيك كتلة غوش قطيف الاستيطانية في غزة عام 2005، واصل أعضاء حركة الاستيطان الدينية في إسرائيل التخطيط للعودة إلى ما يزعمون أنها أرض وهبها الله لهم.
لعقود من الزمن، عاش نحو 8000 مستوطن يهودي مرفّهين على الأراضي الفلسطينية المسروقة في غوش قطيف، مستخدمين أغلب مياه غزة وأفضل الأراضي الزراعية، ومحاطين بأكثر من مليون فقير فلسطيني يعيشون في مخيمات اللاجئين المكتظة.
ورغم أن آرييل شارون، «أبو المستوطنات»، هو من وضع خطة فك الارتباط عن غزة لضمان استمرار الاستيطان اليهودي والاحتلال العسكري للضفة الغربية، إلا أن حركة المستوطنين الدينية نظرت إليه باعتباره خائناً لتخليه عن «الأرض اليهودية»، تماماً كما وصمت رئيس الوزراء السابق اسحق رابين بالخيانة لتوقيعه اتفاقيات أوسلو.
وقد قُتل رابين عام 1995 على يد المتطرف اليهودي ييغال عمير، في عملية امتدحها علناً الناشط الاستيطاني الشاب البارز إيتمار بن غفير. واعتقل مستوطن متدين شاب آخر، هو بتسلئيل سموتريتش، لمعارضته سياسة شارون لفك الارتباط، بعدما خطّط لتفجير سيارات على طريق أيالون السريع، في ساعة الذروة، باستخدام 700 ليتر من البنزين.
على مدى السنوات الثماني عشرة التالية، كان أعضاء حزب الليكود الذي يتزعمه شارون، فضلاً عن أعضاء حركة المستوطنين الدينية بقيادة بن غفير وسموتريتش، يحلمون بالعودة إلى غزة واستعادتها وإعادة بناء غوش قطيف.
وهذا يتطلب، بطبيعة الحال، «إكمال المهمة» التي بدأتها الميليشيات الصهيونية عام 1948، على حد تعبير المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، بطرد كل سكان غزة إلى مصر أو أي مكان آخر، وجعل أغلبهم لاجئين مرة أخرى، ومنعهم جميعاً من العودة إلى الأبد.
عام 2010، اقترح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وعضو الكنيست جيلا غملئيل، وكلاهما عضوان في حزب الليكود، على الرئيس المصري حسني مبارك توطين الفلسطينيين في شبه جزيرة سيناء كجزء من تبادل الأراضي المتعلق باتفاق السلام. وبعد إصرار مبارك على «أنني لست على استعداد حتى للاستماع إلى هذا النوع من المقترحات»، تمت الإطاحة به في ثورة ملوّنة معروفة باسم «الربيع العربي»، نظّمتها الولايات المتحدة، بعد أشهر قليلة.
عام 2012، اقترح نتنياهو صفقة مماثلة على محمد مرسي، خليفة مبارك. وفي أعقاب الحرب التي شنتها إسرائيل على حركة حماس في غزة عام 2014، والتي استمرت 51 يوماً وعُرفت باسم عملية «الجرف الصامد»، طلب نتنياهو من الرئيس الأميركي باراك أوباما أن يقترح الخطة على عبد الفتاح السيسي، خليفة مرسي. لكن الاقتراح قوبل في كل مرة بالرفض.
خلال عملية عملية «الجرف الصامد»، قتل الجيش الإسرائيلي 2310 فلسطينيين، 70% منهم من المدنيين، لكنه لم يحقق أي مكاسب ملحوظة ضد حماس، بينما خسر 67 جنديًا. كانت تلك مجرد جولة أخرى من «جز العشب» لإعادة حركة المقاومة الفلسطينية إلى الوراء وشراء سنوات من الهدوء في إسرائيل قبل الجولة التالية من القتال.
لكن تقريراً نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت»، في حزيران - يونيو 2018، ناقش خطة جديدة للجيش الإسرائيلي «لإحداث تغيير كبير في الوضع إذا تطلب الأمر شن حملة كبيرة في غزة». وبحسب التقرير، فإن الجيش الإسرائيلي لن يقصف غزة ببساطة لبضعة أسابيع ثم يعود إلى الوضع الراهن. بدلاً من ذلك، سيطلق عملية تنطوي على «مهام هجومية» تدخل فيها وحدات النخبة التابعة له غزة «وتقسمها إلى قسمين، بل وتحتل أجزاء كبيرة منها».
في الوقت نفسه، بقيت الرغبة في العودة إلى غزة مشتعلة بين المستوطنين المتدينين في إسرائيل. عام 2019، دعا بن غفير إلى تسوية غزة بالأرض وإعادة بناء غوش قطيف.
قبيل انتخابات الكنيست عام 2022، اتحدت ثلاثة أحزاب سياسية يمينية متطرفة لتشكيل الائتلاف الصهيوني الديني، وهي حزب الصهيونية الدينية، برئاسة سموتريتش، وحزب عوتسما يهوديت (القوة اليهودية)، برئاسة بن غفير، وحزب نوعام، وهو حزب أرثوذكسي صغير متشدد.
في تموز - يوليو 2022، كتب المرشح الصهيوني الديني أرنون سيغال خلال إعلان حملته الانتخابية: «لقد حان الوقت لبدء التخطيط للعودة إلى غوش قطيف وإعادة بنائها».
في أيلول - سبتمبر 2022، مع اقتراب الانتخابات، تناولت قناة i24 News المقربة من نتنياهو، قضية غوش قطيف، واصفة إياها بـ «الجرح العالق»، الذي لا يزال مفتوحاً وطرياً بالنسبة للإسرائيليين. ونقل الموقع عن إسرائيلي يدعى هيليل قوله: «إنها صدمة آذت البلاد بأكملها».
اندمجت جهود إعادة بناء غوش قطيف مع الخطة العسكرية لإحداث تغيير جذري في الوضع في غزة عندما أصبح نتنياهو رئيسًا للوزراء للمرة السادسة بعد الانتخابات.
بعد عام من خروجه من السلطة، استعاد نتنياهو رئاسة الوزراء في كانون الأول - ديسمبر 2022 بعد تشكيل ائتلاف بين الليكود والائتلاف الصهيوني الديني. وبموجب الاتفاق أصبح بن غفير وزيرا للأمن القومي، وسموتريش وزيرا للمالية ووزيرا في وزارة الدفاع مسؤولاً عن الإدارة المدنية في الضفة الغربية المحتلة. وبناء على توجيهاتهما، كثفت الحكومة الإسرائيلية أعمالها العسكرية ضد فصائل المقاومة الفلسطينية، وسرّعت بناء المستوطنات اليهودية، وأصدرت دعوات لضم الضفة الغربية.
في آذار - مارس 2023، مع تصاعد العنف، تراجع ائتلاف الليكود والصهيونية الدينية بهدوء عن جانب رئيسي من خطة فك الارتباط عن غزة.
بالعودة إلى إخلاء غوش قطيف عام 2005، تطلب فك الارتباط الذي أعلنه شارون التخلي عن أربع مستوطنات صغيرة في شمال الضفة الغربية كان من الصعب على الجيش الدفاع عنها. في 21 آذار - مارس 2023، اقرّ الكنيست تعديلاً على قانون فك الارتباط، باقتراح من عضو الكنيست عن حزب الليكود يولي إدلشتاين، سمح للمستوطنين اليهود بالعودة إلى المستوطنات الأربع التي تم إخلاؤها، مما يمهد الطريق لإعادة بنائها.
بعد التصويت، صرّح عضو الكنيست ليمور سون هار ملك من حزب «القوة اليهودية»: «يجب ألا نكتفي بأمجادنا أو نشوة اللحظة. يتعين علينا أيضاً أن نحشد جهودنا من أجل العودة إلى ديارنا في منطقة غوش قطيف التي تم التخلي عنها في ضرب من الحماقة الشنيعة». وقالت وزيرة البعثات الوطنية أوريت ستروك، من حزب الصهيونية الدينية، للقناة السابعة الإسرائيلية: «أعتقد أنه في نهاية المطاف، سيتم عكس خطيئة فك الارتباط»، وأشارت إلى أن ذلك سيتطلب خوض الحرب، و«للأسف، العودة إلى قطاع غزة ستؤدي إلى سقوط العديد من الضحايا».
يومها، حذرت منظمة «السلام الآن» غير الحكومية اليسارية من أن «ثورة مسيحانية تحدث الآن. هذه الحكومة ستدمر بلادنا لا محالة. كما أنهم سيعمّقون الاحتلال ويشعلون المنطقة ويقيمون نظاماً يهودياً عنصرياً من النهر إلى البحر».
في 7 تشرين الأول - أكتوبر الماضي، شنّت حركة حماس هجومًا على إسرائيل. تحت غطاء من إطلاق آلاف الصواريخ، اخترق حوالي 1500 من مقاتلي الحركة حدود غزة وهاجموا قاعدة فرقة غزة التابعة للجيش الإسرائيلي وعدداً من المستوطنات والبلدات في ما يعرف بغلاف غزة.
خلال الهجوم، قتلت حماس مئات من الجنود والمدنيين وأفراد الشرطة الإسرائيليين، وأسرت 240 آخرين. فيما رد الجيش الإسرائيلي بقوة نيران هائلة، مستخدماً الدبابات ومروحيات الأباتشي، ما أدى إلى مقتل مئات من مقاتلي حماس، ومئات آخرين من الجنود وأفراد الشرطة والمدنيين الإسرائيليين لمنع حماس من أسرهم.
ورفض المتحدثون العسكريون الإسرائيليون وأعضاء منظمات الاغاثة ووسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية، بشكل شبه كامل، الإقرار بمقتل إسرائيليين على أيدي الجيش الاسرائيلي، ونشروا مزاعم عن ارتكاب حماس فظائع مروعة، بما في ذلك قطع رؤوس الأطفال. أشعل ذلك الغضب الشعبي اللازم لتبرير استخدام العنف الساحق، ليس فقط ضد حماس، بل ضد كل سكان غزة، وتنفيذ خطط العودة إلى غوش قطيف. وانتشرت الدعوات إلى ارتكاب إبادة جماعية ضد سكان غزة بين السياسيين والصحافيين والمشاهير الإسرائيليين.
اغتنمت إسرائيل الفرصة وبدأت حملة قصف واسعة النطاق على غزة، مترافقة مع مطالبة الفلسطينيين بإخلاء النصف الشمالي من الجيب المحاصر، وهي منطقة يسكنها 1.1 مليون شخص - حوالي نصف سكان القطاع - في غضون 24 ساعة. واعتبر نائب وزير الخارجية الإسرائيلي السابق والدبلوماسي البارز داني أيالون على وسائل التواصل الاجتماعي أنه لا يجب على سكان غزة الذهاب إلى جنوب غزة فحسب، بل عليهم الفرار إلى مصر. وكتب: ««لا نقول لسكان غزة أن يذهبوا إلى الشواطئ أو يغرقوا أنفسهم... لا لا سمح الله... اذهبوا إلى صحراء سيناء... المجتمع الدولي سيبني لهم مدنًا ويعطيهم الطعام...».
وترافقت هذه الدعوات مع نشر وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، تقريراً في 13 تشرين الأول - أكتوبر، من الواضح أنه أُعدّ قبل 7 تشرين الأول - أكتوبر، يوصي باحتلال غزة ونقل سكانها البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية، مع الإصرار على عدم السماح لهم بالعودة أبدًا. ونصت الخطة على أنه يتعين على الحكومة إطلاق حملة علاقات عامة موجهة نحو الغرب من شأنها الترويج للتطهير العرقي بطريقة لا تعزز العداء الدولي لإسرائيل أو تضر بسمعتها. وذكر التقرير أن ترحيل السكان من غزة يجب أن يتم تقديمه كإجراء إنساني ضروري للحصول على الدعم الدولي. ويمكن تبرير مثل هذا الترحيل إذا كان سيؤدي إلى «سقوط عدد أقل من الضحايا بين السكان المدنيين مقارنة بالعدد المتوقع للضحايا في حال بقائهم».
وبالفعل، أكّدت القصف الإسرائيلي المروعة على غزة أن عدد الضحايا سيكون هائلاً بالفعل.
في 27 تشرين الأول - أكتوبر، بعد مقتل 7,028 فلسطينيًا من بينهم 2,913 طفلًا، شنت إسرائيل غزوها البري الذي طال انتظاره. وبعد أسبوع، ألقى حاخام وحدة من الجيش الإسرائيلي خطاباً مثيراً أمام الجنود قائلاً: «هذه الأرض لنا... الأرض بأكملها، بما في ذلك غزة، بما في ذلك لبنان، بما في ذلك كل الأرض الموعودة!… غوش قطيف صغيرة مقارنة بما سنحققه بعون الله!».
وكما ورد في خطة 2018 التي فصّلتها القيادة العسكرية، أقدمت القوات الإسرائيلية الغازية بسرعة على تقسيم قطاع غزة إلى قسمين، وبدأت غزو الشمال على طول الساحل.
بعد زرع العلم الإسرائيلي على الرمال على شاطئ غزة، قال أحد القادة الإسرائيليين لقواته: «لقد عدنا. لقد طردنا من هنا منذ ما يقرب من 20 عاماً... هذه أرضنا!. وهذا هو النصر بالعودة إلى أرضنا».
وفيما كان الجنود الإسرائيليون يحتفلون في غزة، قدم أعضاء في الكنيست من حزب الليكود مشروع قانون، في 8 تشرين الثاني - نوفمبر الماضي، لتعديل قانون فك الارتباط لعام 2005 مرة أخرى، وهذه المرة «لإلغاء القانون الذي يمنع اليهود من دخول قطاع غزة».
في 11 تشرين الثاني - نوفمبر، نشر داني دانون، سفير إسرائيل السابق لدى الأمم المتحدة، ورام بن باراك، النائب السابق لمدير الموساد، مقالاً في صحيفة «وول ستريت جورنال» يدعوان فيه إلى طرد الفلسطينيين من غزة لدوافع إنسانية، تماماً كما وردت في خطة وزارة الاستخبارات.
مع شعوره بأن حلمه بتطهير غزة عرقياً وإعادة بناء غوش قطيف على جثث الأطفال الفلسطينيين القتلى على وشك التحقق، رحب بتسلئيل سموتريتش بالاقتراح، قائلاً إن «هذا هو الحل الإنساني». كما رحبت وزيرة العدل السابقة أيليت شاكيد بهذه الخطوة، لكنها كانت أقل دبلوماسية، إذ صرخت على شاشة التلفزيون الإسرائيلي: «بعد أن نحول خان يونس إلى ملعب لكرة القدم... علينا أن نستفيد من الدمار (لنقول) لبقية الدول إن كل منها أن نأخذ حصة (من الفلسطينيين)، يمكن أن تكون 20,000 أو 50,000... نحن بحاجة إلى مغادرة مليوني شخص. هذا هو الحل لغزة».
الآن، أصبح الأمر متروكاً لحماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية لضمان عدم نجاح «الثورة المسيحانية» الإسرائيلية في غزة.
تعليقات